الجنوب يدخل واشنطن من بوابة التحوّل الجيوسياسي: قراءة في التحرك الجنوبي المنظم داخل دوائر النفوذ الأمريكي

الأحقاف نت / إعداد: وحدة التحليل السياسي – مركز الأحقاف للدراسات الاستراتيجية والإعلام / 18 يونيو 2025م

في سياق متغيرات إقليمية ودولية متسارعة، يشهد الملف الجنوبي في اليمن تطورًا نوعيًا يتمثل في أول تحرك دبلوماسي وسياسي رسمي منظم للمجلس الانتقالي الجنوبي داخل العاصمة الأمريكية واشنطن. هذا التحرك، الذي يخرج عن إطار الخطابات واللقاءات العابرة، يُعبّر عن انتقال فعلي من حالة المطالبة الشعبية العاطفية إلى نهج المؤسسات السياسية الدولية، ويؤسس لمقاربة جديدة ترتكز على أدوات التأثير داخل مراكز القرار العالمية.

ما يميز هذا التحول ليس فقط طبيعته الرمزية – افتتاح بعثة سياسية – بل توقيته ودلالاته. ففي لحظة جيوسياسية معقّدة، ترتبط فيها ملفات البحر الأحمر، وأمن الممرات البحرية، ومكافحة الإرهاب، والسيادة الطاقية، بمراكز الثقل في جنوب الجزيرة العربية، يدخل الجنوب اليمني المشهد كـ”فاعل استراتيجي ناشئ” يسعى للتموضع داخل معادلة النفوذ الدولي، عبر البوابة الأمريكية.

بعيدًا عن المجاملة الخطابية، يمكن القول إن هذا التحرك يمثل تحولًا في العقيدة السياسية للمجلس الانتقالي الجنوبي؛ فمنذ سنوات، ظل حضوره مقتصرًا على الداخل اليمني والمنصات الإعلامية، أما اليوم، فهو يحاول تأسيس رأس جسر سياسي داخل أكثر العواصم تأثيرًا على خريطة الصراع اليمني.

يشير تحليل وحدة الرصد لدينا إلى أن البعثة التي دشّنها المجلس في واشنطن لا تتحرك في فراغ، بل تعمل وفق خارطة طريق تشمل اللقاء بمراكز بحث أمريكية، ومنظمات ضغط، ومكاتب تشريعية في الكونغرس، ودوائر في وزارة الخارجية والدفاع، ضمن ما يمكن وصفه بـ”المعركة السياسية المنظمة”، الهادفة إلى تثبيت الجنوب كشريك محتمل للولايات المتحدة في قضايا الأمن البحري ومكافحة الإرهاب.

ومن الواضح أن هذا التوجه السياسي الجديد لا يُعبر عن جهد فردي أو مبادرة مجتمعية تقليدية من الشتات، بل يعكس نضجًا في فهم معادلات القوة، وتحولًا من أسلوب التظاهر إلى استراتيجية التفاوض. فقد سبق هذا الحراك تحضير منظم داخل الجالية الجنوبية في المهجر، تخللته ورش عمل مغلقة، لقاءات مع منظمات أمريكية، وتشكيل فريق دعم سياسي وقانوني.

تُجمع التحليلات الأولية في وحدة المتابعة بالمركز أن هذه التحركات تأتي مدفوعة بجملة عوامل أهمها:

1.الفراغ الاستراتيجي الذي تخلقه هشاشة السلطة اليمنية المعترف بها دوليًا، وصراع النفوذ الإقليمي داخل اليمن، وهو ما يجعل واشنطن منفتحة على استكشاف أطراف فاعلة أكثر تماسكًا ووضوحًا في الرؤية.

2.التطور النوعي في أداء القوات الجنوبية من حيث ضبط الأمن ومكافحة الإرهاب، خصوصًا في المحافظات الساحلية مثل عدن وأبين ولحج، حيث تحققت نتائج ملموسة على الأرض تخدم المصالح الأمريكية في المنطقة.

3.فشل جهود التسوية في خلق تمثيل عادل للقضية الجنوبية داخل منصات التفاوض اليمنية – الأممية، مما دفع بالمجلس إلى تجاوز الحلقة الضيقة والانخراط مباشرة مع المجتمع الدولي.

في ذات الوقت، تندرج هذه الخطوة ضمن سياق أوسع من التحركات الموازية على المستويين الإقليمي والدولي، حيث يسعى المجلس الانتقالي إلى تثبيت “شرعيته الواقعية” عبر بناء شبكة علاقات مباشرة مع الفاعلين الدوليين، متجاوزًا بذلك الوساطة اليمنية الرسمية التي كثيرًا ما تجاهلت المطلب الجنوبي أو قزمته ضمن صراعات جانبية.

يُلاحظ أيضًا، من خلال البيانات المتوفرة من داخل واشنطن، أن البعثة الجنوبية تسعى لاستخدام لغة مصالح لا شعارات، حيث يُطرح الجنوب اليوم على طاولة السياسة الأمريكية لا كمجرد ضحية من ضحايا الحرب، بل كـ”شريك استراتيجي محتمل” في ملفات الأمن البحري، مكافحة التهريب، إدارة الموارد، وضبط الجماعات المتطرفة في مناطق ذات أهمية حيوية للتجارة العالمية.

إن ما يحدث في واشنطن ليس انعكاسًا لحراك الجالية فحسب، بل بداية لتأسيس “هوية سياسية جنوبية خارجية” تسعى لفرض نفسها كحقيقة دولية، عبر أدوات دبلوماسية مشروعة. وهذا يعيدنا إلى مدرسة سياسية مختلفة تمامًا عن مناخ الشعارات، تقوم على بناء الرواية، صياغة الملف، والتواصل الذكي مع المصالح الدولية.

ومع هذا، فإن طريق المجلس نحو الاعتراف الدولي لا يزال طويلًا ومعقدًا. فالخريطة الجيوسياسية اليمنية تحكمها اعتبارات إقليمية متشابكة، كما أن واشنطن، على الرغم من انفتاحها على الفاعلين غير التقليديين، لا تمنح وزنًا سياسيًا دائمًا إلا بعد توفر مؤشرات استقرار، وتماسك داخلي، وتوافق إقليمي حول شرعية الكيان المتقدم بطلب الحضور.

لكن ما يمكن الجزم به في هذه المرحلة هو أن الجنوب بات، لأول مرة منذ 1990، يمارس سياسة خارجية واقعية تعبر عن مصالحه، وتخاطب العالم بلغته، مستندًا في ذلك إلى تحولات على الأرض، وليس مجرد خطاب عاطفي.

إن التحرك الجنوبي في واشنطن لا يمثل فقط لحظة رمزية، بل هو جزء من معركة أوسع لإعادة تعريف الجنوب ككيان سياسي قابل للحياة، ومؤهل للشراكة الدولية، في إطار مشهد إقليمي يعاد تشكيله باستمرار.

وختامًا، تؤكد وحدة التحليل السياسي في مركز الأحقاف أن هذا التحرك، وإن كان في بدايته، إلا أنه يضع المجلس الانتقالي والجنوبيين أمام اختبار مزدوج: القدرة على الاستمرار في بناء أدوات التأثير الدولي، والنجاح في إنتاج نموذج حكم داخلي قابل للتصدير والإقناع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى