اشتباكات عين الحلوة: جولة جديدة من التهجير والعزلة

بيروت / BBC عربية:

بالنسبة للبنانيين، هي مجرد جولة أخرى من الاشتباكات في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، يتابعون مجرياتها بفتور كمن لا يعنيه الأمر.

بالنسبة لسكان عين الحلوة، هي مأساة جديدة تفاقم من كونهم ضحايا أزليين لصراعات متعددة، منها ما هم معنيون به، ومنها ما لا يعنيهم بشيء.

غير أن السكان الذين نزحوا من المخيم الفلسطيني الأكبر في لبنان، والذي يوصف بعاصمة الشتات، وتشردوا نتيجة الاشتباكات الأخيرة، لم يتركوا منازل كتلك التي عادة ما ترد صورها في الذهن عند ذكر كلمة “منزل”. فهم تركوا ما قد لا يرتقي إلى مسمى خيمة، وإن كانت مدعّمة بأسمنت، محشورة بين أبنية مشابهة مركّبة، بين دهاليز ضيّقة لشوارع تتدلّى بينها وداخلها كابلات الكهرباء كحبال حول الرقاب.

هذه الفسحة غير الفسيحة، هي كل ما يمكن أن يطمح الفلسطيني في لبنان أن يعيش فيه. هذه الفسحة التي لا تتعدى في عين الحلوة جنوبي لبنان الكيلومتر المربع، هي التي تشهد مواجهات بين مسلحين بقذائف صاروخية، وبرصاص ينخر حوائط غير مدعّمة، ويغطي الأرض.

من هذه “الفسحة” هرب سكان منذ أن اندلعت الاشتباكات العنيفة. قصدوا جوامع ومدارس في مدينة صيدا.

“لقد تركت كل شيء وهربت. من شدة الخوف. نسيت حتى أن أحضر أدويتي”، يقول أحد الذين لجؤوا إلى جامع في صيدا.

لكن الأغلبية بقيت في منازلها. ليس لأن القذائف لا ترعبها، بل لأنها ملّت الهرب والتشرّد.

ناشطون داخل المخيم قالوا لبي بي سي، إن أُسراً كثيرة ليس لديها أحد في الخارج أو تخشى أن تترك المخيّم فتُستباح منازلها.

هؤلاء بقوا بالرغم من تعطّل كل الخدمات – على قلتها – في المخيم. فمنذ اليوم الأول للاشتباكات علّقت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – الأونروا- خدماتها هناك، وهي بشكل أساسي خدمات الرعاية الصحية التي يستفيد منها يوميا مئات الأشخاص وخدمات الصحة البيئية من تنظيف شوارع وجمع النفايات إلى ضخ وتكرير المياه.

“أصلا لم يعد من داع لتكرير المياه. فمعظم الخزانات على الأسطح تشظّت نتيجة القصف”، يقول أحد سكان المخيم متهكماً.

حتى فرق الإسعاف غادرت المخيم بعد أن تم استهداف سيارتي إسعاف. معظم هذه الفرق تمركزت خارج المخيّم في نقاط قريبة من حواجز الجيش الذي يسيطر على مداخل المخيّم ولا يدخله – وهذا هو الوضع القائم في كل المخيمات الفلسطينية منذ عقود.

فعندما يُصاب أحد في الداخل، تقوم فرق مشاة بنقله إلى الخارج أو يحضره الناس إلى مدخل المخيم وتتولاه من هناك فرق الإغاثة.

فعلياً هذه الجولة كان يُفترض أن تكون قد انتهت بعد زيارة وفد هيئة العمل الفلسطيني المشترك إلى المخيم، لتثبيت وقف إطلاق النار فيه بعد ظهر الثلاثاء.

لكن الاشتباكات تجددت مساء الأربعاء، “أعنف من كل الأيام السابقة”، بحسب السكان الذين قالوا إن الساعات الثلاث أو الأربع التي اشتعل خلالها المخيّم تخللها إطلاق عدد هائل من القذائف، بعضها أصواتها غير كلاسيكية، وغير مألوفة حتى بالنسبة لآذان معتادة. هذا ما رواه سكان داخل المخيّم يعاينون الأضرار التي تكبدوها في المنازل والسيارات.

كل ذلك دون حساب الأضرار النفسية لسكان المخيم الذين تقدّر الأونروا أعدادهم بنحو خمسين ألف، وهو عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين مع وكالة الأمم المتحدة هناك.

فعلياً حتى داخل الكيلومتر المربع الواحد، هناك مربعات عسكرية لمختلف الفصائل. لكنها مربعات متاخمة لمنازل. مربعات داخل ما هو في الواقع مربّع داخل مدينة. مربّع لم يزره يوما معظم اللبنانيين ولا يعرفون عنه سوى أنه “بقعة” على أرض لبنان، وكأنها منفصلة عن البقعة الأكبر التي هي عليه، أي لبنان.

من الذي يطلق النار داخل المخيّم؟ يصعب الجواب. ففي المخيّم يتكاثر وجود الفصائل، منها الأساسي ومنها المنشق ومنها الحديث الذي يكتشفه الناس مع كل تجدد للاشتباكات. الجديد هذه المرة قد يكون في بروز ظاهرة ما يسمّى بالتفلّت الفردي التي تقول الفصائل إنها تعجز عن ضبطه.

في المحصلة، الثمن الأكبر لأي تصفية حسابات تجري من خلال هذه المعركة، يدفعه سكان المخيّم.

ستنتهي الجولة. سيعود سكان المخيم إلى ترقيع منازلهم، إلى عزلتهم داخل مخيم محزّم بجدار من الأسمنت.

سيعودون للتعايش مع قوانين تميّز ضدهم، تحدّ من حرياتهم وحقوقهم بذريعة الحفاظ على قضيتهم.

سيعودون وقد زادت عزلتهم عن محيط يعيشون في قلبه، وينظر إليهم وكأنهم سكان بقعة على أرضه وليسوا منها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى